النجاة بعد الموت مرتين...











 هذه المقالة قبل أن تنهي قراءتها يحقّ لك بوصف سلوكي انه غبي ومتهور وبلا معنى(فلست عزيزي القارئ أفضل من صحف سويسرا عندما وصفتني بالسائحة المتهورة). هذا السلوك لا يجب على احد اتباعه حتى لا يكون في دائرة الغباء والتهور. هذه المقالة ساخرة وروحانية وفيها مشاعر مختلطة ومتقلبة… استمتعوا وعيشوا


وصلت عند الأشخاص الذين وجدت طلب استضافة منهم، يعيشون في قلب مدينة بريق، حول المدينة جبال عظيمة تحيط بها، من كل شباك هناك منظر خلاب ينتظرك. اجابني احد السكان ان قصتي مثيرة ولكن خطيرة، أعارني حقيبة ظهر وحقيبة نوم -١٠ لان الارتفاع قد يكون عالي وقد يكون البرد قارص جداً، أن استوعب أن البرد هكذا، فقد كنت في مونت بلانك، في ذهني أن المسارات جميعها متشابهة وان الامر عادي، هكذا بدت لي الرؤية في البداية، هكذا كنت أعتقد يجب أن تسير الأمور…

لم ارد رؤية ولا سماع الاخبار، فالناس تموت كل يوم في الجبال والأنهار وغيرها، كنت مؤمنة ان الله الحافظ معي ولكن بعض الإيمان يفسد بدون العمل الصالح والصحيح. فالإيمان وحده لا يكفي ابداً لتنجو أحياناً، فالمعجزات تحصل للأنبياء والصحابة منهم رضي الله عنهم، أما نحن عباد الله الضعفاء لا حول لنا ولا قوة.

بدأت المسار وكنت منبهره بالجمال والطبيعة والشلالات، مشيت وكنت أتوقف بين القرى، أخذت غفوة في مكان لاعتقادي أن مسار اليوم خفيف، سأصل في الوقت المناسب لمكان التخييم الذي اود التخييم في تلك الليلة. خلال طريقي لم ارى اشخاصاً يسيرون، كنت اعتقد انهم وصلو، أو أنهم لم يبدأوا. مشيت حتى وجدت رجلان يصيدان في الجبال، سألتهم عن الطريق وأخبروني أنني في المسار الصحيح، نظروا إليّ وسألوني، انتي هنا وبهذه المعدات فقط؟ أخبرتهم بثقة نعم. سألوني ان كان لدي معدات اخرى أو أني أسير مع فريق أو منظمة؟ اخبرتهم بلا وأني لوحدي في هذا المسار، سألوني إن كنت اود تسلق الجبال للذهاب للجهة الأخرى. اخبرتهم ان هذه خطتي بالضبط. أخبرني بحزم: اذهبي للمنزل. توقفت وانزعجت من تصرفه، كيف تخبرني في وسط مغامرتي ان اذهب للمنزل بعد كل الشوط الذي قطعته حتى أصل هنا؟ تذكرت وقتها الام المعرفة التي رأت والدها ذاهب للحريق وهو مصرّ واخبرته ان يأخذ طفاية حريق معه. لماذا لم تكن معي الطفاية وقتها؟


تجاهلتهم و استمررت في المشي، ضعت بين الجبال، كانت هناك لوحات في حال الطوارئ اتصل بهذا الرقم، اخذت صورة للرقم تذكارية انه كنت في مكان شبه خطير. خلال تسلقي، بدأت ارى الثلج واعتقدت انه من الطبيعي أن يكون الثلج هنا وهناك وكان لا بأس، استطيع السير. بعدها بساعات الثلج مستمر ويزيد، وطبعاً لم أفكر وقتها في شيء سوى ان اصل. تفكيري كان في عالم آخر. لم اكن افكر في العودة ابداً بسبب الطريق، لا يمكن أن اعود بعد كل الطريق الطويل الذي قطعته. قدمي بدأت ترتجفان، كان لدي حافظة ماء فيها ماء دافئ (على أساس اشرب الشاي في القمة) لم افكر ثانية حتى كنت بين دقيقة والاخرى اصب الماء الدافئ لقدماي حتى تتحرك، فكانت في مرات كثيرة تجمدت حتى فقدت الإحساس بها. بدأت قدمي تنزف دماً وبدأت أرى دمي وسط بياض الثلج، تمالكت نفسي وانا افكر في الوصول فقط، أن أصل فقط، لم اسمع ولا ارى نفس اي احد، لا حيوانات، ولا شجر، ولا حشرات، ولا شيء، كان المكان مرتفع حتى بدأ نفسي يضيق، كنت أفكر أين أنام، كل المكان جليد، اتصلت على رقم الذي وجدته، اخبروني ان اتصل على الاسعاف. لم يمكن لديّ البطارية الكافية أو حتى الاتصال الكافي. ارسلت رسالة لأصدقائي ومن يعرف انني هناك، بموقعي والرقم الطوارئ وان لم يسمعوا مني في الساعات القادمة، اتصلوا بهذا الرقم. وبعدها استمريّت في المشي دون ان اعلم ان رسالتي وصلت أم لا، وجدت هاتفي بدون شحن. وهنا بدأت بالانهيار شيئاً فشيئاً والبكاء. وصلت الى اعلى قمة، رأيت المنظر والجبال من حولي دانية، وانا في جبل ، عالٍ جداً، بدأت اصرخ وأسمع صوتي يعود لي! لم يعد الطريق معروف فكله مغطى بالثلج. لم اعد اعرف أين أنا الآن، فلا أحد يعلم أني هنا! كنت لوحدي ولكن بطريقة ما لم أكن وحيدة الليلة، وفجأة كان هناك صوت (كيف اموت الليلة؟) فالريح قوية جداً فلا وزني يحملني ولا وزني مع حقيبتي، وليس هناك شيء اتمسك به، كان هناك صخرة عملاقة تتحرك بين حين واخرى ولكنها تحمي من الرياح، كنت اعتقد ان لم امت وانا اسقط من القمة ستسقط عليّ الصخرة بالتأكيد. بدأت بنصب الخيمة وتجميع الحجارات داخلها حتى لا تسقط أو تطير إثر الرياح القوية فلم تكن هناك خيارات للنجاة كثيرة. المياه التي لدي تجمدت، والماء الدافئ انتهى. والأكل الذي لدي لم يعد قابل للأكل بسبب الجليد. وضعت يدي تحت الخيمة وبدأت احاول ان افتح هاتفي، بعد محاولات فتح ولكنني بين حدود دولتين، لا توجد شبكة، حاولت كل الطرق الممكنة، ارسلت لكل شخص بعد ساعات من المحاولات، حلّ الظلام الدامس للمكان، بدأت بالصلاة و البكاء والمناجاة. حتى سلِمت، واستسلمت، أسلمت وجهي لله، و استسلمت للقدر الذي سيكتبه الليلة، خيره وشره، كتبت وصيتي، رسالة الوداع، كنت ممددة وفي صدري هاتفي و هويتي وجواز سفري، بدأت بوضع كل اوراقي في مكان، في حال وجدوا جثتي. لم استطع الذهاب لقضاء حاجتي من البرد القارص وقدماي تجمدتان وكأن جسدي أتته حالة من الشلل النصفي. صمت وبكيت، كنت ابكي بشدة وقبول ورضا، كان شعور مختلف جداً. بدأت بالتصوير والهلوسة وارسال اصوات غريبة مع رسالة الوداع لصديقتي. عندها نظرت من خيمتي من خلال نافذة صغيرة، القمر مكتمل، الجبال والرياح قوية، منظر البحيرة بديع، وكان ربما احد اجمل المناظر الطبيعية سكوناً في حياتي. وقتها ناجيت الله كثيراً، تمنيت لو استطيع ان اسجد بجسدي ولكن قلبي سجد خشياً وحباً واتصالاً، في تلك اللحظة شعرت بخطاب الله لي؛ لقد مرّ وقت طويل منذ خطابي معه، فكانت تلك اللحظة مشهودة بقلبي وخطابنا، شعرت بانه اخبرني الكثير، أو قلبي أدرك الكثير الذي لن أدركه في حياتي العادية، كان يجب ان اقوم بذلك وإن أمر بتلك اللحظات حتى أدرك، وحتى يكون في قلبي حياة بعد الممات. كنت في أشد لحظات الإيمان والتسليم واليأس كذلك، كان الله هناك يحدثني، وكنت اشعر بالامان تارة والخوف تارة اخرى، الامان باني في معيته مهما حدث وان الموت بطريقة اخرى لا يخيف، والخوف تارةً على اهلي؛ ان يصلهم خبر وفاة ابنتهم في قارة بعيدة ودولة بعيدة وحدها في أعالِ الجبال، ربما هذا كان السبب الوحيد الذي جعلني اخاف، قلب اهلي! صمت ودعيت لهم، ان يطمن قلبهم ويطبطب عليهم، كنت خائفة عليهم فقط، ألا يصيبهم الحزن والخوف وألا تكون صدمة لهم. دعيت بأن يحفظهم الله ولكن الله حفظهم وحفظني معهم. اذكر وقتها أني كنت مبتسمة ومتحمسة للموت، ربما كان هناك شعور نشوة غريب ان هذه الساعات هي آخر ساعاتي على هذه الأرض، شاهدت شريط حياتي، كنت على أطراف الموت، وكنت أتذكر أني عشت حياة عظيمة وجميلة جداً، لا اندم على اي شيء ابداً، كنت متحمسة للقاء جدي، كنت اريد الإيمان الكامل بأني سألقاه، كان قلبي سعيداً للآتي، ربما الحياة بعد هذا الكوكب أكثر حماساً! وربما هذه الفكرة فقط في داخلي حتى لا أزيد الخوف خوفاً. كنت مؤمنة بـ ٩٩٪؜ ان هذه لحظاتي الاخيرة، وانفاسي الاخيرة، كنت على سكرات الموت، نفسي ينقطع وبالكاد أرى شيئاً وانا اقاوم الشعور واحاول التنفس ولكن كل شيء حولي لا يساعد. و١٪؜ مؤمنة بأن الله يصنع المعجزات وأني عبد الله الذي لا حول ولا قوة لي، وان الحياة مليئة بالمعجزات والعجائب. عندها فقط بدأت اسمع اصوات واقول وصل الناس للقمة وأنا لست وحدي! وأردد في مكاني، الحمدلله على السلامة! لكني في مرحلة هلوسة وكل شيء ممكن اعتقاده عند سكرات الموت، وبعدها اسمع أصوات وأضواء ورياح قوية، وبدأت اهلوس: ماما طفي اللمبة، أختي قفلي الشباك رياح قوية، وطفي المكيف برد. ولم افكر في شيء حتى يأتيني نور للخيمة، وانا اراه حتى اعتقدت أنه ملك الموت، بدأت استشهد واكبر، وابكي وانا قلبي ممتلئ بالتسليم، كان يتكلم وانا ارد بالعربية وأقول الله ربي ومحمد رسولي والاسلام ديني، ولم يفكر حتى أخذ معداتي وبدأ يفتح خيمتي حتى أعطيته كفّ وآصرخ بأن يبتعد. حتى اخبرني انه رجل الانقاذ. بكيت وانا لا استطيع ان افكر او استوعب او اتذكر. اخبرني لاحقاً انني اخبرته انه لا يمكنني التحرك، جسدي يتجمد ولا استطيع الحركة. اخذني بالهليكوبتر، حتى وصلت المستشفى.


اتذكر وقتها عند وصولي عندما رأيت نفسي في المرأة، في كرسي متحرك، جسدي اسود واحمر، لا استطيع الحراك ولا الكلام من أثر الصدمة، اذكر وقتها أن الساعة كانت ٣:٠٠ ليلاً وقتها امي ارسلت لي رسالة من اللاشيء، تخبرني انها ووالدي يبكيان وقلقان، سألتهم لماذا وكنت أتأكد إن كان وصلهم شيء مني، ولكن حمداً الله لم تصلهم أي رسالة. اخبروني انهم اشتاقوا لي وفجأة ارادوا ان يطمئنوا عليّ. كنت أعلم أنه لا شيء يأتي من العدم فقلب الام والاب كبير يدركان اشياء لانعلمها. بكيت بشدّة، شعرت ان قلبي مات مرتين حينها، عندما كاد ان يذوق الموت، وعندما نجا يذوقه من جديد بسبب هذه اللحظة. كنت أشعر بالعجز، والخوف، وعدم الحماس، لم ادرك انني على قيد الحياة، كأن ذاكرتي اختفت، لا اذكر اي شيء حينها، كنت ارى جسدي مصاباً، وقلبي يقاوم وروحي ايضاً، وكأن الحادثة حلم لا اود استمراره أو حتى تذكر تفاصيله. اخبرني الطبيب حينها أني نجوت بأعجوبة، فأنا الشخص الذي لا يملك أي معدات مناسبة ورغم ذلك نجوت، حينها تم إنقاذ ٤ آخرين في نفس المنطقة، جميعهم بمعدات اثنان منهم توفيا من اعصار، وواحد في غيبوبة والآخر قطعوا قدماه اثر الصقيع الذي حصل في قدماه. اخبرني إن قدماي كانت على وشك أن تكون قضمة الصقيع ولكن كانت سريعة الشفاء وتم إنقاذي في الوقت المناسب! 


عدت الشهور والايام واشعر اني لا اتذكر شيئاً ولا احاول ان اتذكر، ولكن جسدي يذكرني كثيراً في كل مرة آخذ حماماً فيها، تؤلمني درجة الحرارة. فقد أُصيب جسدي باضطراب درجة الحرارة، ففي كل مرة تختلف درجة الحرارة واحياناً يصيب النمل قدماي ولا أشعر بهما فأسقط. قرأت أن الصقيع يأخذ من ٦ أشهر حتى سنة ليتم شفاؤه تدريجياً. لا اعلم ان كانت أصعب لحظات حياتي، فقد كتب الله لي عمراً، وتم انقاذي، ولكن لوهلة اشعر باني اثر الصدمة لا أدرك هذا. وكأن كان هناك شعلةٌ اختفت!

بعدها تغيرت أشياء كثيرة في حياتي، شعرت ان احد رسائل الله كانت، اخفضي جناحك للناس ياغدير، كل يوم قد يكون آخر يوم، سواءً وسط الجبال أو وسط الناس، وأن أسوأ ما يمكن ان يعيشه المرء ان يرى لحظاته الاخيرة وحيداً، فمهما كنت في أجمل منظر في العالم، لا شيء يساوي حضن احدٍ تحبه وقربه ونفس ورائحة ناسك حولك، فالحياة اقصر من ان تقضي لحظاتك الاخيرة وحيداً. وان الحياة مشاركة، مع اشخاص او شركاء او اصدقاء او حتى عائلة. بعدها أدركت أن المشاركة لا ينقص المرء شيئاً بل يزيده.

وان الله، قد يكون في اعلى الجبال أو قاع المحيطات، هو حيث انت، فوجودك مرتبط بوجوده، وبحثك عنك هو بحثك عنه، وان الله لا تحدّه تضاريس او معالم أو مشاعر، لا يحده شيء، وانه اقرب مايكون لك ومنك واليك، وأنه لو اجتمعت افكارك ومخاوفك من شيء لم يكتبه الله لك، ستتحرر من تلك المخاوف لشيء كتبه الله لك. وأن الحرية هي حرية القلب والروح والتسليم لله وحده، فهو أعلم بك منك، وهو يهيئ الخير والشر في طريقك لك. 

ولا إله إلا الله وحده لا شريك له في قلبي. وانا اليه أعود وارجع .


تعليقات